بين الحر والمر
تشتهر منطقة الأحساء الواقعة في شرق المملكة العربية السعودية بحرفة حياكة المشالح منذ أكثر من 200 سنة، إذ احتلت مكان الصدارة في إنتاج أفخر الأنواع وتصديرها على مستوى دول الخليج منذ الأربعينيات الميلادية، فعندما تُذكر الأحساء تُذكر معها المشالح الحساوية التي يُعد ملبسها وقفًا على الملوك والأمراء والوجهاء، وذلك لارتفاع أثمانها مقارنة بالمشالح الأخرى. بسبب توافر الأسباب الثلاثة التي إذا توافر أحدها في المشلح لكفاه أن يُعد ثمينًا، لكن ما جعل المشلح الحساوي نخبويًا هو توافر جميع هذه الأسباب، أولها قماشه الفاخر الذي يتكون نسيجه من وبر الجمال أو وبر اللاما،أو صوف الماعز، ويبرم بوساطة مغازل خاصة إلى أن يصبح خيوطًا رفيعة جدًا جاهزة للحياكة، فكلما كان الخيط رفيعًا كان النسيج فاخرًا والمشلح أغلى ثمنًا، ثم نوعية الزري«القصب» الحر الذي يزين طرفيه ولا يتغير لونه مع مرور الزمن، عكس الزري المر، وأخيرًا جودة حياكته اليدوية التي أتقنها أبناء منطقة الأحساء، وصدروها كحرفة إلى البلدان الأخرى مثل العراق وسوريا والكويت. إن حياكة المشالح الحساوية فن يشترط الكثير من الدقة والأناة والمهارة، فإنجاز «دقة الزري»، أو ما يعرف بالتطريز، والتي تزين طرفي المشلح وتتكون من خيوط حريرية أو قطنية مغلفة بخيوط ذهبية، تتطلب الكثير من الصبر والساعات الطوال بحسب نوعية الدقات المختلفة في تصميمها، فهناك دقة الملكي، والمنديلي والمتوسع والمقطع والعريض والمخومس والمروبع والوسط والصخيف، وكل نوع من هذه الدقات تتفاوت تفاصيله.
لقد كانت تلك «الدقات» فيما مضى لا يتجاوز عرضها السنتمترين، أما الآن فأصبحت تصل إلى ستة سنتيمترات، وتمر بسبع مراحل وهي «التركيب التحتي»، وتمثل خياطة أول تطريز من الزري، والمرحلة الثانية تسمى «الهيلة» وهي حشو الزخرفة بالتطريز، والمرحلة الثالثة «التركيب الفوقي»، وهو تركيب الطرف الثاني من تطريز الزري على قماش المشلح، والمرحلة الرابعة «البروج»، وتعد آخر زخرفة يتم تركيبها في المشلح، وبعدها مرحلة «المكسر»، وهي خياطة الخيوط المذهبة وتحتاج إلى مهارة وإتقان، أما مرحلة «القيطان»، عبارة عن خيط سميك مذهب يوضع على أطراف الخياطة الخارجية، وفي كل من طرفيه كرتان صغيرتان من الزري تسمى «الفرفوشة»، والمرحلة الأخيرة «البرادخ والتلميع»، وفيها يوضع الزري المطرز على قطعة خشب خاصة، ويتم طرقه بمطارق حديدية لتلميعه وتثبيته وفرده.
بشوت بين البشتين
تختلف أقمشة المشالح حسب الموسم، ففي موسم الشتاء هناك الجبرلوكس وهو من الوبر الناعم، والبرقنص وهو قماش من الوبر، أما الأقمشة الربيعية فنجد ما يسمى بين البشتين أي بين الشتاء والصيف، ومرينة وبر ديلوكس. وفي فصل الصيف تكون الأقمشة من النوع النجفي وهو من الصوف الخفيف جدًا والذي يتم غزله ونسجه يدويًا، والدروركي والبهبهاني، وألوان المشالح تتماهى بين العودي والزعفراني والأشقر والأسود والرمادي والأبيض. قد يستغرق المشلح الحساوي المشغول يدويًا من 80 ساعة إلى 120 ساعة عمل، يقوم به أربعة حائكين، كل منهم يؤدي مهمة مختلفة لإنجاز عمل يتوخون فيه الدقة المتناهية، فأي خلل في حياكة المشلح تصمه بالعيب، ما يعني خسارة مادية فادحة.
إرث متوارث
حفاظًا على حرفة يدوية تُعد فنًا من الفنون التراثية التي تتميز بالإبداع، كما عدت مصدر دخل جيد ورثتها بعض العائلات في منطقة الأحساء أبناءها، حتى أصبحت المشالح تسمى بأسماء هذه العائلات التي اشتهرت بهذه الحرفة، مثل عائلة القطان، والخرس، والمهدي، والبغلي. يقول ضياء البغلي أحد أبناء هذه العائلة الذي ورث هذه المهنة من أجداده الذين اشتغلوا بها منذ القرن التاسع عشر: «حفاظًا على هذه الحرفة التي نعدها فنًا من الفنون التراثية نسعى إلى تقديم هذا الفن بأسلوب فريد يتمثل في فخامة التصميم وتطوير التفصيل وصياغته بألوان الحاضر».
إن المشلح الحساوي بتاريخه العريق في الجودة خير ما يمثّل الترف لمرتديه حاضرًا أو ماضيًا، فهو الأصالة المحاكة بإبداع وتأمل وفن وصبر. إنه قصة من التاريخ، وأمنية كانت تداعب خيال الأجداد بامتلاكه.